هنا كلام قيم ونفيس جداً لشيخ الإسلام
ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، بعد أن بين أنه لا يمكن أن يكون للمواقيت حد ظاهر معروف واضح جلي لا يختلف عليه إلا الهلال؛ فذكر هذا الكلام النفيس فيقول: (وقد انقسمت عادات الأمم في شهرهم وفي سنتهم القسمة العقلية -يعني: الرباعية- وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة إما أن يكونا عدديين أو طبيعيين أو الشهر طبيعياً والسنة عديدة أو العكس، فالذين يعدونهما - أي: يجعلون السنة عددية والشهر عددياً- مثل: من يجعل الشهر ثلاثين يوماً والسنة اثني عشر شهراً، والذين يجعلونهما طبيعيين مثل: من يجعل الشهر قمرياً والسنة شمسية). لأن السنة الشمسية معلوم أنها طبيعية! فدورة الشمس معروفة, وكيف أثر ذلك في الأرض والحياة, وتبادل الفصول الأربعة, ثم قال رحمه الله: (ثم يُلحِق في آخر الشهور مع الأيام المتفاوتة ما بين السنتين التي يجعلونها خمسة أيام أعياد أو ستة أيام أعياد أو كبس أو ما أشبه ذلك).فنجد السنة القمرية -كما يقول الشيخ- ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وبعض يوم؛ خمس أو سدس يوم، وأما الشمسية فـثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وبعض يوم؛ ربع يوم تقريباً, الآن في العلم الحديث يعدل بعض التعديلات وهي أدق؛ لكن الكلام هذا كان معروفاً حتى من قبل الشيخ، فقد نقل الشيخ عن
ابن منادي وهو من علماء آخر القرن الثالث، وكذلك ذكر هذا
البيروني و
المسعودي ثم
المقريزي ثم
القلقشندي وغيرهم, فالقضية معروفة عند المسلمين بهذا التفاوت.وهنا يذكر الشيخ أنه في قوله تبارك وتعالى: ((
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ))[الكهف:25], أن التسع السنوات هي الفرق القمري يعني: فرق السنوات القمرية؛ لأن في كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث سنة؛ سنة زائدة على حساب الأشهر القمرية.ثم يقول رحمه الله: (وأما من يجعل السنة طبيعية والشهر عددياً فهذا حساب الروم والسريانيين والقبط ونحوهم من
الصابئين والمشركين، ممن يعد شهر كانون ونحوه عدداً, ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس). طبعاً شهر كانون من الأشهر العربية القديمة التي كانت تسمى رومية بالعربية القديمة، والكانون في لغة العرب هو الموقد، وكل الأشهر العربية القديمة معروفة, مثل: آب أيضاً, فالأب معروف؛ وهو المرعى والخصوبة أو ما أشبه ذلك، فهي أشهر عربية قديمة؛ لكنها شمسية, وهي اعتبارية عددية.ثم يقول الشيخ رحمه الله: (فأما القسم الرابع: بأن يكون الشهر طبيعياً والسنة عددية -يعني: اعتبارية اصطلاحية- فهو سُنَّة المسلمين ومن وافقهم). ثم بيَّن أن الذي جاءت به شريعتنا هو أكمل الأمور؛ لأنه وقَّت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار؛ فلا يضل أحد عن دينه, ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه, ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه, ولا يكون طريقاً إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.إلى أن يقول رحمة الله عليه: (ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين و
الصابئين و
المجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك في أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد ازداد شكره على نعمة الإسلام, مع اتفاقهم على أن الأنبياء لم يشرعوا شيئاً من ذلك, وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة
الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).